عندما خلق الله -سبحانه وتعالى- الإنسان، فطَرَه على حُبّ النّاس كلّهم، وجعل له مشاعر تنبني على ما يعترضه من أحداث تمرُّ به أثناء تعامله مع الناس، فيُحبّ، ويكره، ويحِقد ويظنّ، وذلك من ضرويّات الفِطرة الإلهيّة في خلقه، لكن يجب على المسلم أن يجعل حُبَّه وكُرهَه وحِقده مُوجَّهاً، فلا يُحبُّ إلا لله ولا يكره إلا لله، ولا ينبغي عليه أن يحِقد على أحدٍ أبداً؛ لما يعنيه الحِقد ويُسبِّبه من العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع، وقد أشارت العديد من النّصوص القرآنيّة والأحاديث النبويّة إلى ذلك، وستبحث هذه المقالة في معنى الحِقد وأقسامه، وكيفيّة إزالته من قلب المسلم إذا ما اعترضه.
معنى الحِقد لُغةً واصطلاحاً:
للحقد معانٍ مُختلفة لغةً واصطلاحاً، وبيانها فيما يأتي: الحِقد لغةً: مصدر حقَدَ، وحَقَدَ يَحقِد، حَقْدًا وحِقْدًا، فهو حاقدٌ وحَقود، وجمعُها حَقَدَ ، وحقََدَ على فلان: أي أضمر له العداوةَ، وأبغض له الخير، وحاول الإيقاع به، ويأتي أيضاً بمعنى: كرِهَه وبغَضَه، وحَقدَ المعدِن: إذا لم يخرج منه شَيْئًا، وحَقدَ المطر: احتبس، وحِقدت السّماء: أي احتبسَ مطرُها. الحِقد اصطلاحاً: للحِقد في الاصطلاح عدّة معانٍ، منها: الضَّغَنُ وَالاِنْطِوَاءُ عَلَى الْبَغْضَاءِ، وَيأتي كذلك بمعنى: (إِمْسَاكُ الْعَدَاوَةِ فِي الْقَلْبِ، وَالتَّرَبُّصُ لِفُرْصَتِهَا)، وهو يعني أيضاً: (سُوءُ الظَّنِّ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْخَلاَئِقِ لأِجْل الْعَدَاوَةِ، أَوْ طَلَبُ الاِنْتِقَامِ).
كيفيّة إزالة الحِقد من القلب:
ذكر العلماء عدداً من الأمور التي ينبغي على الإنسان القيام بها؛ حتّى يستطيع إزالة الحِقد وآثاره من قلبه إن وُجِد، وحتّى يستطيع طرده من قلبه إذا حاول التسلُّل إليه، ومن أهمّ تلك الأمور ما يأتي:
صيام الأيّام النّوافل والسُّنَن من كلّ شهر، مثل: صوم الأيّام البِيض، والاثنين والخميس؛ وذلك لِما رواه ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (صومُ شهرِ الصَّبرِ وثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ يُذهِبْنَ وَحرَ الصَّدرِ)، ويُقصَد بلفظة الوحر الواردة في الحديث: الحِقد، والغيظ.
إفشاء السلّام؛ فإنّ لإفشاء السّلام علاقةً بانتشار الحُبّ بين النّاس وإزالة الحِقد والبغضاء من قلوبهم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (والذي نفْسي بِيدِهِ، لا تؤْمِنوا حتى تَحابُّوا، ألا أُنبِئُكُم بأمرٍ إذا فعَلتُموه تَحابَبْتُم؟ أفْشوا السّلامَ بَينَكُم).
التّواضُع، فلين الجانب والتّواضع يجعلان العلاقة بين المسلمين قائمةً على الاحترام والمحبّة، فينتفي بينهم الحِقد والتّباغُض.
الصَّفح والعِتاب؛ فالعتاب الذي يكون قائماً على إظهار ما أخطأ به المرء والصّفح يوضّحان أسباب الخطأ أو الاعتذار عنه، وبالتالي منع تشكُّل الأحقاد القلبيّة.
الهديّة، فإنّ للهديّة أثراً في نفي الحِقد؛ حيث تدلُّ على المحبّة والتّآلُف بين المُهدِي والمُهدَى إليه، وقد قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في الصّحيح: (تهادَوْا تحابُّوا).
تذكُّر فضل الحِلم، وأجره، وقيمة الحليم في المجتمع المُسلِم خصوصاً، وأثر ذلك في سلامة القلب، وقد قال الله -سبحانه وتعالى- على لسان إبراهيم -عليه السّلام- داعياً أن يؤتيه الله قلباً سليماً خالياً من الحِقد والبغض: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ*يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، وعن عبد الله بن عمرٍو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيُّ الناس أفضل؟ قال: (كلُّ مخموم القلبِ، صَدوقِ اللِّسانِ)، قالوا: صَدوق اللّسان نعرفه، فما مَخموم القلب؟ قال: (هو التقيّ النقيّ، لا إثم فيه، ولا بغيَ، ولا غلَّ، ولا حسد).
قراءة سِيَر الحلماء؛ للاتّعاظ بها والاعتبار من أثر الحِلم عندهم ونتائجه العظيمة، وكان من بين هؤلاء الحُلَماء الأحنف بن قيس، وقد رُوِي من قصص حِلمه الكثيرة الدالّة على طِيب أصله وحُسْن تعامُله مع من يُسيءُ له، أنَّ رجلًا ذات مرَّة علِم بعظيم صبره فجعل لأحدِ الرّجال ألف درهم على أن يُثير غضبه حتّى يُسيء إليه، فوقف الرّجل في وجهه وبدأ يسبُّه ويشتمه ويُهينه وبالَغ في ذلك، وكان الأحنف كلّما زاد الرّجل في الشّتم كلما أعرض عنه وكأنّه لا يسمعه، فلمّا رآه على تلك الحالة لا يُكلّمه ولا يردُّ إساءته، أقْبَل يعضُّ أصابعه ويقول: واسَوْءَتاه! والله ما منعه من جوابي إلا أنّني هُنت عليه. ذِكر الموت في كلّ حال؛ فإنّ ذِكر الموت يُرقِّق القلب ويجعله يُقبل على الآخرة ويدبر عن الدُّنيا، ممّا يُزيل منه الحِقد والحَنَق والغيظ على الآخرين، وقد رُوِي عن الحسن أنّه قال: (قيل للرّبيع بن خثيم: يا أبا عبدالله، لو جالستَنا، فقال: لو فارق ذِكْرُ الموت قلبي ساعةً فسد عليّ). الصَّدقة؛ فالصّدقة تجلو النّفس وتُزكِّيها، وتجعلها مُقبلةً على الخير، مُدبرةً عن الشرّ، ويُظهِر ذلك قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
حُكم الحِقد
من عظَمة الإسلام أنّه لم يترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا جعل لها حُكماً، وقد أُشير في بعض النّصوص إلى الحُكم الشرعيّ للحِقد، وحالاته، ومتى يجوز ومتى لا يجوز؛ حيث يختلف الحُكم الشرعيّ للحِقد حسب حال الحاقد والمحقود عليه، وبيان ذلك فيما يأتي: إذا كان الباعث على الحِقد وسببه الرئيسيّ هو الحسد لشخصٍ معيّنٍ دون وجه حقّ، ودون أن يُسيء المحقود عليه للحاقد، فإنّ ذلك مذمومٌ مبغوضٌ في الشّريعة الإسلاميّة، حيث يكون دافعاً لإثارة التّباغض والتّحاسُد بين المسلمين، ممّا يؤدي إلى انتشار العداوة والإضرار بالناس والمجتمع، ونتيجةً لذلك ستنتشر الجرائم والقطيعة بين الأقارب، وقد ورد النّهي عن مثل هذا النوع من الحِقد والتّنبيه إلى أضراره في كتاب الله -سبحانه وتعالى- في وصف حال المُنافقين الذين يُظهِرون الإيمان، ثمّ يُبطِنون العِداء للمسليمن، قال تعالى: (هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). إذا كان الدّافع للحِقد ظُلماً تعرَّض له الحاقد من المحقود عليه؛ بحيث لم يتمكّن من دفعه بيده أو لسانه، ولم يستطع استيفاء حقه منه ممّا جعل الحِقد يتشكّل في قلبه على ذلك الظالم، أو أنّ الحِقد كان على كافرٍ يؤذي المسلمين بأفعاله، أو كلامه، أو نحو ذلك، ولم يتمكّن أحدٌ من المسلمين من ردّ أذاه عن الإسلام وأهله، فإنّ هذا النّوع من الحِقد غير مذمومٍ شرعاً، وينبغي على الحاقد أن يُبادِر إلى العفو عن ظالمه إن كان مُسلماً، بعد أن يُزيل الحِقد الذي في قلبه عليه ما دام يستطيع أخذ حقّه منه، ويُعَدّ ذلك من الإحسان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ*إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
تعليقات
إرسال تعليق